بين لهيب الحرب ووهج العدالة… شعب لا ينسى
مقدمة: أمة على مفترق التاريخ
أم درمان تكتب الذاكرة: الذكرى السادسة لفض اعتصام القيادة العامة في قلب أم درمان القديمة، وعلى مرمى نظر من بيوت الطين والذكريات، خرجت الجموع يوم الأربعاء 4 يونيو 2025، ترفع صور الشهداء وتهتف للعدالة. لم يكن هذا يوماً عادياً في حياة السودانيين، بل هو يوم تستعيد فيه الذاكرة الوطنية لحظة مفصلية صنعت الوعي، وأشعلت جذوة الثورة التي لم تخمد رغم لهيب الحرب المستعرة اليوم بين الجيش وقوات الدعم السريع. ست سنوات مرت، والجرح لم يلتئم، والعدالة ما زالت حلماً يسعى خلفه شعب عظيم يحمل أوجاعه وأحلامه في قلبه.
الذكرى الحية: شوارع تغني للثورة
لم تكن أم درمان في ذلك اليوم مجرد مدينة، بل صارت ساحة واسعة لكتابة الذاكرة الوطنية من جديد. المتظاهرون، رجالاً ونساءً، شباباً وكهولاً، أعادوا رسم وجوه رفاقهم الشهداء على جدران البيوت العتيقة، وكأنهم بذلك يرفضون أن تندثر أسماء الشهداء أو تختفي تفاصيل الحكاية. في لحظة واحدة، عادت الهتافات التي ملأت ساحة الاعتصام قبل ست سنوات: “حرية، سلام وعدالة!”، لتملأ فضاء المدينة، متحديةً صوت البنادق وهدير الحرب.
تاريخ لا يغيب: جرح الاعتصام في الوجدان الوطني
في صبيحة 3 يونيو 2019، سقطت دماء طاهرة في محيط القيادة العامة للجيش، يومها انقضت قوات عسكرية على اعتصام سلمي استمر قرابة شهرين. يومها، تكسرت الأحلام على حواف الرصاص، وتحولت ساحة الثورة إلى ساحة دماء ودموع. لم يكن المعتصمون يحملون سوى حب الوطن، ولم يكن مطلبهم سوى دولة مدنية تعبر عن تطلعات شعب أرهقته سنوات القمع والاستبداد.
قاد الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) ذلك المشهد الدامي، حيث نفذت قوات الدعم السريع عملية الفض بعنف مفرط، لتسقط عشرات الأرواح وتتحول شوارع الخرطوم إلى ميدان للمطاردة والقمع.
ما قبل الفض: ثورة أبريل وولادة الأمل
في السادس من أبريل 2019، كانت لحظة الميلاد الجديد للسودان. آلاف السودانيين تدفقوا إلى محيط القيادة العامة، يطالبون الجيش بالانحياز للثورة الشعبية والإطاحة بنظام عمر البشير. وبالفعل، رضخ رأس النظام وانهار في 11 أبريل، لكن الثوار أدركوا أن إسقاط رأس الحكم لا يعني انتصار الثورة، فبقوا في الاعتصام مطالبين بانتقال مدني كامل، يحفظ حقوق الشهداء ويحقق العدالة.
خلال تلك الأيام، شهد الاعتصام تلاحماً شعبياً غير مسبوق، حيث اجتمع السودانيون من كل الولايات، ينظمون الصفوف، ويقيمون الليالي الثورية، ويعيدون رسم ملامح الوطن الذي يحلمون به. لكن ذلك الأمل ظل مهدداً بهجمات متكررة من قوات الأمن، وخصوصاً قوات الدعم السريع التي كانت تترصد المعتصمين في محيط شارع النيل.
يوم الدم: تفاصيل صباح 3 يونيو
حين بزغ فجر الثالث من يونيو، زحف جنود الدعم السريع إلى ساحة الاعتصام، يطلقون الرصاص والهراوات، ويهدمون متاريس “الترس” التي أقامها الشباب دفاعاً عن أحلامهم. تحول المكان إلى جحيم، لم يكن للسلام فيه موضع قدم، ولم يجد المعتصمون سوى دمائهم يكتبون بها ملحمة وطنية جديدة. استمرت المواجهات ثلاثة أيام، امتلأت خلالها شوارع الخرطوم بصيحات الاستغاثة وصرخات الأمهات.
حواجز الذاكرة: “الترس” رمز المقاومة
لم تكن “الترس” مجرد حواجز إسمنتية، بل كانت عنواناً لعزيمة لا تلين. خلف تلك المتاريس، توحدت قلوب السودانيين على هدف واحد: الحرية والكرامة. وحتى بعد الفض، بقي “الترس” في الذاكرة رمزاً للمقاومة الشعبية، ودليلاً على أن السودانيين قادرون على الوقوف في وجه العنف والموت، مهما كانت التضحيات جسيمة.
العدالة المؤجلة: جراح لم تندمل
مع حلول الذكرى السادسة، لا تزال العدالة غائبة، والمحاسبة حلماً بعيد المنال. عائلات الشهداء، وناجيات وناجون من الفض، لم يتوقفوا عن المطالبة بالتحقيق الشفاف، وبتقديم المسؤولين عن الجريمة للمحاكمة. القوى المدنية والحقوقية تواصل نضالها، رغم الواقع السياسي المرير الذي تعيشه البلاد جراء الحرب والانقسامات.
الحرب الجديدة: العدل محاصر بالنار والدخان
تعيش السودان اليوم على وقع حرب دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع، حرب أعادت للأذهان مشاهد القمع والدمار، وأخرت أحلام العدالة والانتقال المدني. ورغم ذلك، فإن أجيال الثورة لم تخنع، بل ظلت ترفع راية العدالة والحرية، وتردد في كل مناسبة أن دماء الشهداء ستظل أمانة في أعناق الجميع.
خاتمة: شعب لا ينسى
في شوارع أم درمان القديمة، كتب المتظاهرون رسالة واضحة للعالم: “لن ننسى شهداء القيادة العامة، ولن نتنازل عن العدالة مهما طال الزمن”. ست سنوات مرت، لكن ذكرى الاعتصام لم تتحول إلى مجرد حدث في كتب التاريخ، بل بقيت ناراً تحت الرماد، وسؤالاً مفتوحاً في وجه كل من أراد طمس الحقيقة أو سرقة أحلام السودانيين.
هكذا، تظل أم درمان رمزية الذاكرة الوطنية، وتبقى ساحات الاعتصام شهادة حية على قدرة الشعوب على الصمود، مهما كانت التحديات. العدالة آتية، ولو بعد حين، والحرية وعد وطن لا يموت.